قصائد مُختارة للشَّاعرة الإيطالية آلدا مِريني
Alda Merini (1931-2009)
آلدا مِريني في سطور
من أهم الشَّاعرات في تاريخ إيطاليا الأدبيِّ. صوَّرت في قصائدها الألم والرَّغبة على أنَّهما قطبا الحياةِ وحقيقتاها الرَّاسختان، جاعلةً من الواقع نسغَ القصيدة، فلم تخن يوماً، ومنذ أولى بداياتها، قدرَها الشِّعريَّ، حتَّى وإن كانت مكابدةُ الجنونِ ثمناً لذلك؛ تقول: "سماءُ الشِّعر محالٌ حبسُها، حتَّى وإن بقي المرءُ، جسمانيَّاً، مغيَّباً ومنسيَّاً في أماكن أخرى".
بدأت مِريني كتابةَ الشِّعر في سنِّ الخامسة عشرة، وكانت السَّنة التَّالية سنة لقائها الأوَّل بالعالَم الأدبيِّ عندما بدأت تتردَّدُ على دار نشر سبانيولِتِّي حيث تعرَّفت على جورجيو مانغانِلِّي مُلهِمِ أسلوبها الشِّعريِّ وحبِّها الكبير الأوَّل. لكن هذا العام كان، كذلك، العامَ الذي بدأت فيه الأعراض الأولى لمرضها الطويل بالظُّهور.
في عام 1965 أنزِلتْ، ولمدَّة إحدى عشرة سنة، مستشفىً للمجانين؛ وعن هذه التَّجربة كتبت: "كنت مجنونةً وسط مجانين. كانت أعواماً في غاية الرَّوعة. المجانين كانوا مجانين في العُمق، بعضهم فائق الذَّكاء، هناك حيث ولِدتْ أجملُ صداقاتي... المجانين لطفاء، بخلاف البلهاء، القابعين جميعاً في الخارج، في العالَم. البلهاء قابلتهم لاحقاً، بعدما خرجتُ...".
مع ذلك، لم تكن مِريني شاعرةَ المستبعَدين أو المعزولين، بل كانت قصيدتها شموليَّةً، مفتوحةً للجميع، تنطق بما في قلوبهم من حاجةِ الإنسان إلى أن يُحِبَّ ويُحَب.
* * *
ظهرت مجموعتها الشِّعريَّة الأولى "حضور أورفيوس" في عام 1953، وهو عام زواجها من إتُّورِي كارنيتي، صاحب مجموعة من مخابز ميلانو؛ أمَّا في 1955 فظهرت مجموعتاها "مخافة الله" و"زفافٌ رومانيٌّ" تزامناً مع ولادة ابنتها الأولى إمانويلا. إلى بييترو، طبيب طفولتها، أهدت في عام 1961 مجموعتها "أنت بييترو"، تلاها حوالي عشرين عاماً من الصَّمت. من هذه المجموعات الثلاث يمكن القارئَ أن يحدسَ العنصرَ الذي سيغدو فيما بعد جوهريَّاً في خطاب مِريني الشِّعريِّ، ألا وهو تضافرُ المضامين الإيروسيَّة والرُّوحانيَّة في عقدةٍ واحدةٍ. بين عامي 1972 و1979 بدأت حالتها بالتَّحسُّن شيئاً فشيئاً فعادت الشَّاعرة إلى الكتابة، لتقصَّ تجربتها شعراً ونثراً في مجموعتها "الأرض المقدَّسة".
في عام 1983 تزوَّجتْ مِريني، التي ترمَّلتْ قبل ذلك بسنتين، من الشَّاعر ميكِلِ بْييِرِّي وانتقلت معه إلى
تارانتو حيث عادتْ أشباح الجنون تضجُّ في عقلها وتقضُّ مضجعها، فعادت في 1986 إلى ميلانو حيث بقيت حتَّى وفاتها. خلال هذه الفترة ظهرت أعمالها الأكثر شهرةً، مثل: "جريمة حياةٍ" 1994؛ "رقصاتٌ مجَّانيَّة" 1995؛ "مجنونةُ البابِ المجاورِ" 1995؛ "حياةٌ هيِّنة" 1996؛ "روحٌ عاشقة" 2000؛ "جسدُ الحبِّ. لقاءٌ مع يسوع" 2001؛ "مجنونةٌ مجنونةٌ مجنونةٌ بحبِّك: قصائد لعشَّاقٍ يافعين" 2002؛ "لحمُ الملائكة" 2003.
* * *
كثيرةٌ هي النُّصوص الشِّعريَّة التي تتحدَّث فيها مِريني عن الشِّعر والشُّعراء، ففي مجموعتها "مجنونة الباب المجاور" تقول: "لكلِّ طفلٍ مستقرُّه الوطيدُ في الحياة، أمَّا الشَّاعر فلا أحد يعلمُ أين يولَد. في أيِّ وادٍ من الفردوسِ يترعرعُ لا أحد يعلم. الشَّاعر ملاكٌ بهالاتٍ ملائكيَّة، لا يطلبُ أبداً مشورةَ الكواكب لأنَّه كشاعرٍ قطبُ الحياة ويعرفُ كلَّ كواكب الكون وكلُّ الأقمار معاديةٌ له". وعن رؤيتها لرسالة الشِّعر تقول في المجموعة نفسِها: "إذاً على الشَّاعر أن يتكلَّم، عليه أن يقبض على هذه المادَّة المتأجِّجة التي هي حياتنا اليوميَّة، وتحويلها ذهباً مصهوراً [...]. غير أنَّ الشِّعر يهذِّبُ القلبَ، يصوغ الحياة، يملأ، لِنقُلْ، فراغاتٍ قبيحةً مؤكَّدةً، يملأ حتَّى الجوعَ والعطشَ والوسنَ. يملأ كذلك جرحَ حبٍّ عظيمٍ، أو حبٍّ بلغَ خاتمته، أو حبٍّ يوشك أن يولَد".
* * *
ثمَّة نبرة تنبُّؤيَّة جليَّة في قصائد مِريني، ولقد عزَّز هذه النَّبرة على وجه الخصوص تجربتها في كتابة الشَّذرات الفكريَّة من جهة، وتوظيفها الفريد لفنِّ المونولوج المسرحي في شعرِها من جهةٍ أخرى؛ وكمثل نظيرتيها سيلفيا بلاث وآن سِكستون، فإنَّ فهمَ حالاتها الذِّهنيَّة والمنشأ التاريخي والنَّفسي لتلك الحالات يعدُّ مفتاحاً أساسيَّاً لفهم خطابها الشِّعريِّ. لكن بخلافِ بلاث، وسكستون، فإنَّ شِعر مِريني امتلك على الدَّوام إطاراً ميتافيزيقيَّاً، حيث كانت تصبُّ تجربتها باستمرارٍ في أنماطٍ أرحب مستقاةٍ من التَّاريخ والميثولوجيا، ولعلَّها رأت في هذا التَّماهي مع الغيبيِّ والشَّاسع سبيلاً وحيداً لخلاصِها من آلام الحياة اليوميَّة ومثاقيلها. في الأوَّل من تشرين الثاني 2009 توفِّيت آلدا مِريني في مشفى سان باولو بميلانو، نتيجةً لورمٍ خبيثٍ في أنسجة العظام تاركةً وراءها إرثاً شِعريَّاً كبيراً واستثنائيَّاً.
النُّصوص:
(1) من مجموعة "حضورُ أورفيوس" 1953
أأنقلبُ وحيدةً؟
عندما سأُعْلِي، فيَّ، نارَ الباطنِ
التي ابتدأتْ هذا العصْفَ
وأصبحُ صلبةً، وحرَّةً، وحيَّة،
أأنقلبُ إذَّاكَ وحيدة؟
وربَّما سأنسلخُ بكلِّ جذوري
عن أملي المؤجَّل بالحبِّ،
سأذكرُ أنَّ ثمرةَ كلِّ حدٍّ مِن
الحدود البشريَّة هي غيبةُ ذاكرة،
فأغرق كلِّيَّاً في الصَّيرورة...
لكن، إلى أن أرتعشَ من النُّشوء
على يدكَ التي بالأمس فقط ابتدأتْني،
فإنَّ كلَّ إشارةٍ حيَّةٍ تضغطني
تمكث بلا تكوينٍ داخلَ أبعادك.
* * *
(2) من مجموعة "زفافٌ رومانيٌّ" 1955
زفافٌ رومانيٌّ
بلى، سيكون هذا بيتُنا،
وها أنذا هنا لأعيَ الأمرَ كلَّه؛
لكن أنتَ، أيُّها الرَّجلُ المغتبطُ، من تكون؟
أقيسُكَ: لك صيغةٌ أبديَّة.
هيئتك، التي اتَّخذتَ، متعذِّرٌ استعطافُها.
لسوفَ تنبشني إلى حيث جذوري
(لا بحثاً عنِّي، لا تنجيةً لي)
كلُّ ما هو مستترٌ سترفع حجابَه
بالوحشيَّة التي لعاداتك المعتلَّة.
لَتَمْلِكَنَّ على صميمي
أيُّها الرَّجل الذي يرغمني؛
لَتَنْهَشَنَّ لحمي بأسنانك،
وتؤسِّسَنَّ على وهجِ نهدتي،
كي تخنقَ لهثةَ معناها.
كمثلِ حجَرٍ يشقُّ مجرىً،
مجرى ماءٍ مغتلمٍ وجارف،
ستشُقَّني بلا وعيٍ
بين ذراعَي دَلْتا موجِعة...
كَمَدٌ
عندما يسكبُ الكمدُ لونَه
داخلَ النَّفْسِ المعتِمة
وكأنَّه رتوشُ الثَّأر الأخيرة
أحِسُّ برعمَ الرَّغبةِ القديمة
يصيرُ هيَّاباً ورماديَّاً
وضياءَ الغدِ يلفظ أنفاسَه.
وضدِّي، كلُّ الأشياء المنزوعةِ الرُّوح
التي ابتكرْتُها مِن قبلُ
تجيء لتموتَ ثانيةً في حضنِ عقلي
شهوانةً لإوائي وثماري،
كمن يلتمسُ ثراءً مِن مُستعطٍ.
* * *
(3) من مجموعة "أنتَ بييتْرو" 1961
غنائيَّةٌ قديمة
ها حبيبي، أعطني ميثاق صدقٍ
لأجلك، يا رجُلي، أيُّها الوحيد الذي عشقتُ
في سنيِّ غباوةِ الخوفِ الطَّويلة،
أخرِجْ يديَّ من دهشةِ العتمةِ المريرة
التي لا تحملُ ثمرةً واحدة...
انظرْ، تحفتان هما يداي،
لغةٌ هما لاصطلاحِ حبٍّ خالدٍ
ولكنَّهما بسلسلةٍ حائلةٍ موصدتان
وموثقتان إلى جِذمِ شجرة. ها حبيبي
لقد حلمتُ بك مثلما يُحلَمُ
بوردةٍ وبعاصفة،
أنتَ النَّقيُّ، الحيُّ، والاتِّزان
النَّجميُّ، أمَّا أنا فمكنونةٌ في الليل
ولا أستطيع استضافتك. أرغبُ
أن أذيقكَ كلَّ المراعي التي وُهِبْتُها من الله،
غير أنَّ الخوف
يشدُّني إلى الوراء مثل عدوٍّ؛ حيلتي الكلمات،
كلماتٌ فحسب، وأعرف بحقٍّ أنَّك
لو أنصتَّ بثقةٍ إلى نشيدي،
لَكَانَ تهيَّجَ كيانُك مِن آلامي.
* * *
(4) من مجموعة "الأرض المقدَّسة" 1984
طائراً كنتُ
طائراً كنتُ فيما مضى
برحمٍ أبيضَ رقيقِ التَّكوين،
أحدُهم قطعَ حنجرتي
بقصد اللهو فقط،
لستُ أعلم.
قطرساً هائلاً كنتُ
أطوفُ فوق البحار.
أحدُهم قطعَ سَفري،
دون أيِّ طيفِ رحمة.
لكن حتَّى وأنا مطروحةٌ أرضاً
أغنِّي لك الآن
أغاني حبِّي.
[القمرُ يتفتَّحُ في حدائق مستشفى المجانين]
القمرُ يتفتَّحُ في حدائق مستشفى المجانين،
بعضُ المرضى يتأوَّه،
يدٌ في الجيب العاري.
القمرُ يطلبُ عذاباً
ويطلبُ دماً من المعتزَلَة:
رأيتُ عليلاً
يموت منزوفاً
تحت القمر الملتهِب.
* * *
(5) من مجموعة "خواء الحبِّ" 1991
حُبٌّ
لقد فقدتكَ بين أخاديدِ الحياة
يا حبِّيَ الأوحد،
يا إله المتبقَّى وإله الشَّكِّ
وإله القوى الخرافيَّة
أيُّها الإله الإله، وأبداً الإله
أنتَ الأقوى من العِناقاتِ
ومن رقَّةِ الحبِّ.
يا مَن تفاقمُ الينابيعَ،
وتَظهرُ وتختفي
كأنَّكَ الموكَّلُ بأمرِ القدر.
فقدانكَ شبيهٌ بفقدانِ الأمل
ولقد فقدتكَ
لا مرَّةً بل مليون مرَّة
والعثورُ عليك كمثلِ الصُّعودِ من خطيئةٍ أبديَّة
يجيزُ رؤيةَ ثُلماتِ الحياة
وكذا رؤيةَ نجومكَ المتقلِّبة:
أعلنكَ إلهَ حُبٍّ.
[فضاء]
فضاءً فضاءً أريد، فضاءً جمَّاً
لكي أتحرَّكَ بعذوبةٍ مع جراحي؛
أريدُ فضاءً لأغنِّي وأنمو
وأتيهَ وأجوزَ الهوَّةَ
هوَّةَ المعرفةِ الإلهيَّة
فضاءً فضاءً هَبوني فضاءً
كيما أطلق صريخاً بهائميَّاً،
صريخاً عن صمتِ كلِّ هاتيك السِّنين
التي تحقَّقتُها بلمسِ اليدِ.
أخافُ مِن عينيك
أخافُ من عينيك
من تلك الذُّروةِ الخالصة
التي يختلجُ في جوفها الفِكرُ،
أخافُ من نظرتك
الخفيَّة المخمليَّة المستغلقة
التي تطُوْفُني بها،
أخاف من يديك
الممغنطَتَين الرَّشيقتين
اللتين تماثلان جريَ نسغٍ،
أخاف من ركبتيك
اللتين تكبسان حضني
وأخافُ أخافُ
دائماً دائماً أخاف،
إلى أن يطمَّ البحرُ
لحميَ الواهي هذا
فأستلقي مستنفَدَةً
عليكَ بعدئذْ صرتَ شاطئاً
وصرتُ موجةً
وأنتَ تصفعني وتصفعني
بمجدافِ حبِّك.
* * *
(6) من مجموعة "الثَّعلب والسِّتارة" 1997
[يا لَتثنويَّةِ الضَّوءِ والظِّلِّ اللامحتمَلة]
يا لَتثنويَّةِ الضَّوءِ والظِّلِّ اللامحتمَلة،
تلك الفكرة المتحوِّلة كلَّ يومٍ،
وكلمة السِّرِّ التي تقول: لن آتي
وسأترككِ تموتين قليلاً قليلاً.
لماذا إبطاؤكَ أيُّها الشَّواش؟
لماذا لا تقتربين منِّي أيَّتها الكلمة؟
لماذا لا ألتهمُ شذراتِ الأمس
كما لو كانت مستقبلاً مُعَدَّاً للحبِّ.
* * *
7) من مجموعة "أقوال" 1997
ليس في مقدورنا
على الدَّوام
أن نكون
أبديِّين.
الشَّاعرُ
الذي يرى كلَّ شيءٍ
يُتَّهَمُ
بحرِّيَّةِ الفِكر.
أتلذَّذُ بالخطيئة كما لو كانت
أصلَ الرَّفاهية.
لا تروقني الفراديس
لأنَّها على حدِّ رؤيتي بلا هواجس.
دأبيَ الحبُّ
لأنَّ جسدي
دائماً
في ارتقاء.
الرَّغبات الإيروسيَّة
تحيل دائماً إلى رَقٍّ قابلٍ لإعادة المحو والكتابة.
الإفكُ
مفردةٌ بلا أسنانٍ
حالما تبلغ
غايتها
تضع حنكاً مِن حديد.
* * *
(8) من مجموعة "فائقٌ هو الليل" 2000
[على نواة ثمرةِ مِشمِش]
على نواةِ ثمرةِ مِشمِشٍ
على الفكرة الأولى التي تثب إلى ذهني
أرسِّخُ إبهامَ قَدَمِ المنطق
لكي ألمسَ قدميكَ الإلهيَّتين.
[كان ثمَّة فسقيَّةٌ تنبعُ شُموساً]
كان ثمَّة فسقيَّةٌ تنبعُ شموساً
وتلك كنتها أنا.
في الفجر، حالما أستيقظ
كنت أقبضُ على عصْفِ النَّار
وأحاولُ تعيين الجهةِ التي
ستطيرُ منها القصيدة.
أمَّا الآن، فواحسرتاه، كلٌّ يريدُ
اقتلاعَ ثيابي عنِّي،
واحسرتاه كم كنتُ سعيدةً
حين كنت أطاردُ جرائمَ
هذا الباب، بابِ الألفِ مخافةٍ.
كلُّ شيءٍ الآنَ مهجورٌ ومتوحِّد،
أربعٌ وعشرون بوَّابةً تُعوِلُ
على المِفْصَلاتِ المائتةِ آنئذٍ.
[ثمَّة فراديس صُنْعِيَّة]
ثمَّة فراديس صُنْعِيَّة
وهي تجيءُ ببطءٍ من أقاصي
الشَّمال. أبصرتُ تمساحاً
يلثمُ التُّخومَ ويرعَى
بين ذراعَي أورفيوسٍ ذاهلٍ.
صيحةُ الموت
ههنا حيث أعيشُ لا يُسمَع شيءٌ على الإطلاق، ولا حتَّى
صيحةُ الموتِ، المفارقةِ المبهمةِ التي تسحبُ من الحياة
ذلك الإسفينَ القادرَ على حدسِ الماضي، ذلك الخواءَ
الإذِّكاريَّ المطلَق الذي يُفضي إلى إنجازِ كلِّ كلمة.
لا شيء هنا يُغرِق الماضي، لا شيء يُنهِضه
من هوَّتِه، ما مِن حيرةٍ داخلَ هذا النَّوم وما مِن ساعةٍ
أكثر تحجُّباً وأكثر تعذُّباً من هذه التي تضطرمُ
في صمتِ المغاليق المُحْكَمَة لأبوابٍ أبداً لا تنفتحُ
ولا تُذعن للنَّشيد. الشَّرُّ حفرةٌ هائلة،
ألا إنَّه الزِّنديقُ المهيِّجُ حفيرَ حياتِنا. هوذا أيضاً،
الشَّرُّ يبقى متشكِّكاً ومعلَّقاً
حتَّى في هذا الغياب عن شرِّ الحياة نفسِه.
ما مِن أحدٍ يبكي أو يتبرَّأ أو يتحوَّل رمزاً
أو صورةً في هيكلِ الموت، ما مِن بغيٍ
ستطفرُ من تلقاء نفسِها إلى ركنِ الشَّارع، لتتألَّمَ وتقدِّمَ
غلَّةَ رحمِها التَّالفة بغيةَ المضيِّ إلى ما وراءَ
حدودِ الكلمة. ما مِن أغنيةٍ نسائيَّةٍ أو عاطفيَّة تمتلكُ
في حدِّ ذاتها جذوراً معتلَّة أو، أيَّاً يكن، جذورَ حياةٍ، وما مِن
حِجابٍ قادرٍ أن ينهضَ مثل صورةٍ وأن يصيرَ مسكبَ وردٍ
ويصيرَ مشقَّة. حتَّى مشقَّة الحبِّ، تلك العذوبة الدَّائمة
للحياة، فرَّغها ذلك البخلُ القاتمُ من معناها.
البشرُ كأنَّهم زوارق شراعيَّة، زوارق ثابتة
لا تشقُّ ماءً، ولا تلأمُ لغةً،
البشرُ مواقيتُ قطفِ عنبٍ، لا أكثر.
قد يظهرون وقد يختفون من صيتِ شجرةِ الحياة
الهائلةِ كما لو كانوا أحلاماً، وقد
يحملون في أعماقهم لغوَنا الطِّفليَّ
المشكَّلَ مِن أويقاتٍ رهيبة. وهْمُنا المشَّاءُ عالياً
في السَّماء مذنبٌ كالكلمة
وكالصَّمتِ نفسِه صمتِ هؤلاء الحَمَلَة المَهولين
لجلاميدَ تتزاحمُ فوق سريرٍ، متَّقدةً بالخطيئة
ومتَّصلةً تماماً بالشَّرِّ بل وأهول شرَّاً
من ذلك الذي يقبض على مديةٍ ويديرُ المفتاحَ
الماجنَ لتلك البوَّابة المسمَّاةِ حياةً، يريدُ
إطلاقَ الرُّوح المغرَّقةِ في الدَّمعِ وفي المعرفة.
إنَّهم بالضَّبط هؤلاء البشر المنسابون مثل الخسرانِ
الأبديِّ، مَن يتصيَّدُ الخطئيةَ مِن ملاءاتِ فُرُشِ حدسِهم
الخرافيَّة استهلالاً لذِكْرِ تلك التي
تلتذُّ التذاذَ المخصِبِ بأحطِّ الخطايا التي هي الصَّنيعُ
الفعليُّ. مكوَّرين في ظلماتهم داخلَ الخطيئة
يطفرون إجفالاً عند أوَّلِ تجلٍّ للَّيل، كما لو أنَّ الذَّنْبَ
يقظٌ فيهم والرُّوحَ المنحرِفة توشكُ
أن تقعَ على نسلهم الفائض.
هي ذي مشاعلُ كَمِدة وعقيمة تمضي إلى ما وراءَ
هذا السُّكون الحجريِّ المسمَّى حياةً
والمكنونِ في مجسِّ العزلة اللاذعِ كأنَّه يريد
القبضَ على مبتدأ كلِّ جذر؛ هي ذي تلك التي
كانت تزيِّنُ معرفتَها وصيتَها النَّسَويَّ، وقد عَبَرتْ الآنَ
إلى ظلماتٍ أكيدة، تلك التي كانت تضعُ
قائمةَ جردٍ لموتي ساعةً بساعة، جارَّةً إيَّاه من شَعرِه
كما لو كان هو المثالَ المتمَّمَ
لقلبٍ جديرٍ بالمشاهدَة مجبولٍ مِن عفنٍ وعزلةٍ
لا يحملُ إلا النَّحسَ، لا يحملُ إلا الصَّمت.
إذَّاكَ يرحلُ الشَّرُّ نحو المعرفةِ القديمةِ للأشياء
في تأوُّدٍ مبهَمٍ حاملاً أفكارَنا إلى البعيد
مُصَيِّرَها رمَّاديَّةً كالليل، وكمثلِ النِّفاسِ الكَمِدِ
لربَّةِ شِعرٍ عمياءَ وصمَّاء لا تملكُ على أكمةِ زهرٍ واحدة
ولا تتنبَّأ بشيءٍ خلا الليلَ والعياءَ
الجنازيَّ للمعنى، يبدو كأنَّه ينقلبُ أهولَ
آثامنا طرَّاً. ههنا فوقَ الرِّواقِ المكْرِبِ، هي ذي
المرأة التي لم تكن قطُّ مثالاً ولم تمتلك قطُّ خيفةً
مغشَّاةٌ إلى الأبدِ في حفاوةٍ شاملةٍ بعدئذْ شهدتْ بعينيها
ريبةَ المصيرِ ومصيرَ الرِّيبةِ يتهاويان.
اختارها وترجمها عن الإيطاليَّة: أمارجي